فصل: سنة اثنتين وتسعين ومائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 سنة ثمان وثمانين ومائة

فيها توفي محدث الري الحافظ أبو عبدالله جرير بن عبد الحميد الضبي وفيها على الصحيح توفي الإمام أبو عمرو عيسى بن يونس بن أبي إسحاى السبيعي‏.‏

وفيها أو في السنة الماضية توفي مرحوم بن عبد العزيز العطار بالبصرة وكان محدثاً عابداً صالحاً‏.‏

وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن ماهان التميمي مولاهم المعروف بالنديم الموصلي ولم يكن من الموصل وإنما سافر إليها وأقام بها مدة وهو من بيت كبير في العجم وأول خليفة سمعه المهدي بن منصور ولم يكن في زمانه مثله في الغناء واختراع ا لألحان‏.‏

وحكي أن هارون الرشيد كان يهوى جارية هوى شديداً فتغاضبا مرة ودام بينهما الغضب فقال جعفر البرمكي للعباس بن الأحنف‏:‏ احب أن تعمل في ذلك شيئاً فعمل‏:‏ راجع أحبتك الذين هجرتهم إن المتيم قل ما يتجنب إن التجنب إن تطاول منكما رب السلو له فعز المطلب وأمر إبراهيم الموصلي يغني به الرشيد فلما سمعه بادر فترضاها فسألت عن السبب فأخبرت بذلك فأمرت لكل واحد من العباس بن الأحنف وإبراهيم بعشرة آلاف درهم وسألت الرشيد أن يكافيهما فأمر لهما بأربعين ألف درهم وتوفي إبراهيم المذكور في السنة المذكورة بالقولنج وقيل في سنة ثلاث عشرة ومائتين والأول أصح‏.‏

 سنة تسع وثمانين ومائة

فيها الفداء الذي لم يسمع بمثله حتى لم يبق في أيدي الروم مسلم إلا فودي به وفيها توفي شيخ القراءات والنحو الإمام أبو الحسن علي بن حمزة الأسدي مولاهم الكوفي المعروف بالكسائي احد القراء السبعة كان إماماً في النحو واللغة والقراءات ولم يكن له في الشعر يد حتى قيل‏:‏ ليس من علماء العربية أجهل بالشعر من الكسائي وكان يؤدب الأمين بن هارون الرشيد ويعلمه الأدب وقيل والرشيد أيضاً ولم يكن له زوجة ولا جارية فكتب إلى الرشيد يشكو العزبة في هنه الأبيات‏:‏ قل للخليفة ما تقول لمن أمسى إليك بحرمة بذلي ما زلت مذ صار الأمير معي عبدي يدي ومطيتي رجلي وعلى فراشي من ينبهي من نومة وقيامه قبلي أسعى برجل منه بالية موقودة مني بلا رجل وإذ ركبت أكون مرتدفاً قد أم سرجي راكب مثلي فامنن علي بما يسكنه عني وأهدي الغمد للنصل فأمر له الرشيد بعشرة آلاف درهم وجارية حسناء بجميع آلاتها وخادم وبرذون بجميع آلاته‏.‏

واجتمع يوماً بمحمد بن الحسن الفقيه الحنفي في مجلس الرشيد فقال الكسائي من يتجر في علم يهدي إليه جميع العلوم فقال له محمد‏:‏ ما تقول فيمن سها في سجود السهو هل يسجد مرة وذكر الخطيب في تاريخ بغداد أن هذه القضية جرت بين محمد بن الحسن المذكو والفراء وهما ابنا خالة قال ابن خلكان‏:‏ و جدت هذه الحكاية على القول الأول في عدة مواضع والله أعلم بالصواب‏.‏

رجعنا إلى بقية الحكاية فقال محمد‏:‏ فما تقول في تعليق الطلاق أيصح قال‏:‏ لا يصح قلت يعني لا يصح وقوعه قبل وجود الصفة المعلق عليها قال‏:‏ لم قال‏:‏ لأن السيل لا يسبق المطر وله مع سيبويه وأبي محمد اليزيدي مجالس ومناظرات وسيأتي ذكر بعضها في تراجم أربابها إن شاء الله تعالى‏.‏

روى الكسائي عن أبي بكر بن عياش وحمزة الزيات وابن عيينة وغيرهم وروى عن الفراء وأبو عبيد القاسم بن سلام وغيرهما وتوفي بالري وكان قد خرج إليها بصحبة هارون الرشيد وقال السمعاني‏:‏ و في ذلك اليوم توفي محمد بن الحسن بالري أيضاً بزيتونة قرية من قرى الري كذا قال ابن الجوزي في شذور العقود وقيل إن الكسائي مات بطوس والله أعلم ويقال إن الرشيد كان يقول‏:‏ دفنت العربية والفقه بالري‏.‏

قلت وقد تقدم قول الشافعي‏:‏ من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي وإنما قيل له الكسائي لأنه دخل الكوفة وجاء إلى حمزة بن حبيب الزيات وهو ملتف بكساء فقال حمزة‏:‏ من يقرأ فقيل له‏:‏ صاحب الكساء فبقي عليه هذا اللقب‏.‏

وقيل بل أحرم في كساء فنسب إليه رحمه الله تعلى‏.‏

وفيها توفى قاضي القضاة وفقيه العصر محمد بن الحسن الكوفي منشأ الشيباني مولى أصله من قرية على باب دمشق فقدم أبوه من الشام إلى العراق وأقام بواسط فولد محمد ونشأ بالكوفة قال الشافعي لو أشاء أن أقول نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن لقلت لفصاحته‏.‏

وقال أيضاً ما رأيت أحداً يسأل عن مسألة فيها نظر إلا تبينت في وجهه الكراهة إلا محمد بن الحسن‏.‏

وقال غيره‏:‏ لقي جماعة من أعلام الأئمة وحضر مجلس أبي حنيفة سنتين ثم تفقه على أبي يوسف صاحب أبي حنيفة وصنف الكتب الكبيرة النادرة ومنها الجامع الكبير والجامع الصغير وغيرهما وله في مصنفاته المسائل المشكلة خصوصاً المتعلقة بالعربية ونشر علم أبي حنيفة وكان أفصح الناس اذا تكلم خيل إلى سامعه أن القرآن نزل بلغته ولما دخل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بغداد كان بها وجرى بينهما مجالس ومسائل فظهر علو شأن الشافعي وبراعته في العلوم‏.‏

وقد ذكرت شيئاً من ذلك في مختصر مناقب الإمام الشافعي وروي عن الشافعي أنه قال‏:‏ ما رأيت سميناً ذكياً إلا محمد بن الحسن‏.‏

وحكى محمد بن الحسن أنه أتى أبو حنيفة بامرأة ماتت وفي جوفها ولد يتحرك فأمرهم فشقوا جوفها واستخرجوا الولد وكان غلاماً فعاش حتى طلب العلم وكان يتردد إلى مجلس محمد بن الحسن رحمه الله وسمي ابن أبي حنيفة‏.‏

قلت وقد حكيت هذه الحكاية على غير هذا الوجه فقيل إن الإمام الشافعي هو الذي أفتى بشق بطن أمه واخراج الولد وكان بعض العلماء قد أفتى بالدفن مع الحمل فنشأ الولد وتسلم العلم فسأل عن الذي كان قد أفتى بدفنه مع أمه فقال الإمام الشافعي هذا الذي أفتيت بقتله والله أعلم أي ذلك كان ويحتمل أن تكونا قضيتين‏.‏

قال محمد بن الحسن خلف أبي ثلاثين ألف درهم فأنفقت نصفها على النحو والشعر وأنفقت الباقي على الفقه ولما توفي هو والكسائي قال الرشيد دفنا الفقه والنحو بالري كما تقدم ومحمد بن الحسن هو ابن خالة الفراء صاحب النحو واللغة‏.‏

 سنة تسعين ومائة

فيها فتح هرقلة واستعد الرشيد وأمعن في بلاد الروم ودخلها في مائة ألف وبضع وثلاثين ألف سوى المجاهدين تطوعاً وبث جيوشه تغير وتغنم وتخرب فلما فتح هرقلة أخذها وسبى أهلها وكان مقامه عليها شهراً وبلغ السبي من قبرس سته عشر الفاً وكان فيهم اسقف قبرس فنودي عليه فبلغ ألفي دينار وبعث تقفور جزية عن رأسه وامرأته وخواصه وكان ذلك خمسين ألف دينار واشترط عليه الرشيد أن لايعمر هرقلة وأن يحمل في العام ثلاث مائة ألف دينار وكتب تقفور إليه أما بعد فلي إليك حاجة أن تهب لابني جارية من سبي هرقلة كنت خطبتها له فاستعفني بها فأحضر الرشيد الجارية فزينت وأرسل معها سرداقاً وتحفاً فأعطى تقفور للرسول خمسين ألفاً وثلاث مائة ثوب وبراذين وبزاة‏.‏

وفيها توفي أبو عبيدة الحداد البصري‏.‏

وعبيدة بن حميد الكوفي الحذاء الحافظ وكان صاحب قرآن وحديث ونحو ادب الأمين بعد الكسائي‏.‏

وفيها توفي حميد بن عبد الرحمن الرواسي الكوفي ويحيى بن خالد البرمكي توفي في سجن الرشيد وبرمك من مجوس بلخ ولا يعلم هل أسلم أم لا قلت‏:‏ و لأجل كون أصلهم مجوسياً أتهم الرشيد جعفر على ما حكي أنه استشاره في هدم إيوان كسرى فأشارعليه بترك ذلك فما طاب ذلك على هارون وظن أنه أراد بها مشرف آثار المجوس وربما قيل إنه شافهه بذلك مبكتاً له فقال له‏:‏ اهدموا فلم شرعوا في هدمه صعب الهدم وتعسر لقوة أحكام بنائه فاستشاره ثانياً في ترك الهدم فأشار عليه بأن لا يترك ما شرع فيه من الهدم فقال له‏:‏ سبحان الله اشرت أولاً بترك الهدم وأشرت ثانياً بالهدم فقال ما معناه‏:‏ اني إنما أشرت بترك الهدم ليعرف شرف الإسلام وعلوه وقوة تأييده كل من رأى تلك الآثار التي ظهر عليها الإسلام وأذل أهلها وأزال ملكهم الذي زواله لا يرام وعزة لا يضام فلما لم تقبل مشورتي وشرعتم في هدمه واستشرتني في ترك ذلك اشرت عليك بعدم الترك لئلا يدل ذلك على ضعف الإسلام ويقال‏:‏ عجز المسلمون عن هدم ما بناه المخالفون لدينهم فعند ذلك عرف صواب رأيه وغزارة عقله وقد كان غرم على هدم قطعة يسيرة أموالاً كثيرة‏.‏

رجعنا إلى ذكر أولاد برمك‏:‏ و ساد ابنه خالد وتقدم في الدولة العباسية وتولى الوزارة لأبي العباس السفاح وقال أبو الحسن المسعوعي في كتاب مروج الذهب‏:‏ لم يبلغ مبلغ خالد بن برمك أحد من ولده في جوده ورأيه وبأسه وعلمه وجميع حاله لا يحيى في رأيه ووفور عقله ولا الفضل بن يحيى في جوده ونزاهته ولا جعفر في كتابته وفصاحة لسانه ولا محمد بن يحيى في شرفه وبعد همته ولا موسى في شجاعته وبأسه‏.‏

ولما بعث أبو مسلم الخراساني قحطبة بن شبيب الطائي لمحاربة يزيد بن هبيرة الفزاري عامل مروان بن محمد على العراقين وكان خالد بن برمك في جملة من كان معه فنزلوا في طريقهم بقربة بينما هم على سطح بعض دورها يتغدون اذ نظروا إلى الصحراء وقد أقبلت منها أقاطيع الوحوش من الظباء وغيرها حتى كادت تخالط العسكر فقال خالد لقحطبة‏:‏ ايها الأمير ناد في الناس ومرهم يسرجوا ويلجموا قبل أن يهجم عليهم الخيل فقام قحطبة مذعوراً فلم ير شيئاً يروعه فقال‏:‏ يا خالد ما هذا الرأي فقال‏:‏ قد نهز إليك العدو أما ترى أقاطيع الوحش قد أقبلت إن وراءها لجمعاً كثيفاً فما ركبوا حتى رأوا الغبار ولولا خالد لهلكوا وأما يحيى فإنه كان من النبل والعقل وجميل الخلال على أكمل حال وكان المهدي قد ضم إليه ولده هارون الرشيد وجعله في حجره فلما استخلف هارون عرف له حقه وقال له‏:‏ يا أبت أجلستني في هذا المجلس وببركتك ويمنك وحسن تدبيرك وقد قلدتك الأمر ودفع له ألم تر أن الشمس كانت سقيمة فلما ولي هارون أشرق نورها بيمن أمين الله هارون ذي الندا فهارون واليها ويحيى وزيرها وكان يعظمه إذا ذكره ويجعل إصدار الأمور وإيرادها إليه الى أن نكب البرامكة فغضب عليه وخلده في الحبس إلى أن مات فيه وقتل ابنه جعفر حسب ما تقدم شرحه في ترجمته وكان من العقلاء الكرماء البلغاء‏.‏ومن كلامه ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها‏:‏ الهدية والكتاب والرسول وكان يقول لولده‏:‏ اكتبوا أحسن ما تسمعون واحفظوا أحسن ما تكتبون وتحدثوا بأحسن ما تحفظون‏.‏

وقال الفضل بن مروان‏:‏ سمعت يحيى بن خالد يقول من لم أحسن إليه فأنا مخير فيه ومن أحسنت إليه فأنا مرتهن له‏.‏

وقال القاضي يحيى بن أكثم‏:‏ سمعت المأمون يقول‏:‏ لم يكن ليحيى بن خالد ولولده أحد كفؤاً في الكتابة والبلاغة والجود والشجاعة ولقد صدق القائل حيث يقول‏:‏ أولاد يحيى أربع كأربع الطبائع فيهم إذا اختبرتهم طبائع الصنائع قال القاضي‏:‏ فقلت له يا أمير المؤمنين اما الكتابة والبلاغة والسماحة فتعرفها بقي الشجاعة فقال‏:‏ في موسى بن يحيى ولقد رأيت أن أوليه ثغر السند‏.‏

وحكى إسحاق النديم قال كانت صلاة يحيى بن خالد إذا ركب لمن تعرض له مائتي درهم فركب ذات يوم فتعرض له باسمي الحضور يحيى أبيحت لك من فضل ربنا جنتان كل من مر في الطريق عليكم فله من نوالكم مائتان مائتا درهم لمثلي قليل هي منكم للقابس العجلان قال له يحيى‏:‏ صدقت وأمر بحمله إلى داره فلما رجع من دار الخليفة سأله عن حاله فذكر أنه قد تزوج وقد أخذ بواحدة من ثلاث‏:‏ اما أن يؤدي المهر وهو أربعة آلاف وإما أن يطلق وإما أن يقيم للمرأة منزلاً وخادماً وما يكفيها إلى أن يتهيأ له نقلها فأمر له يحيى بأربعة آلاف للمهر وأربعة آلاف لثمن منزل وأربعة آلاف للكفاية وأربعة آلاف للخدمة وما يتعلق بها او كما قال وأربعة آلاف يستظهر بها فانصرف بعشرين ألفاً‏.‏

وذكر الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة أبي عبدالله محمد بن عمر الواقدي أنه قال‏:‏ كنت خياطاً بالمدينة في يدي مائة ألف درهم للناس أضارب بها فتلفت الدراهم فشخصت إلى العراق فقصدت يحيى بن خالد فجلست في دهليزه وأنست الخدم والحجاب وسألتهم أن يوصلوني إليه فقالوا‏:‏ اذا قدم الطعام إليه لم يحجب عنه أحداً ونحن ندخلك إليه ذلك الوقت فلما حضر طعامه أدخلوني فأجلسوني معه على المائدة فسألني من أنت وما قصتك فأخبرته فلما رفع الطعام غسلنا أيدينا دنوت منه لأقبل رأسه فاشمأز من ذلك فلما صرت إلى الموضع الذي نزلت فيه لحقني خادم معه كيس فيه ألف دينار وقال‏:‏ الوزير يقرأ عليك السلام ويقول لك‏:‏ استعن بهذا على أمرك وعد إلينا من الغد فأخذته وعدت إليه في اليوم الثاني فجلست معه على المائدة فأنشأ يسألني كما سألني في اليوم الأول فلما رفعوا الطعام دنوت منه لأقبل رأسه فاشمأز مني فلما صرت إلى الموضع الذي نزلت فيه لحقني خادم معه كيس فيه ألف دينار فقال له‏:‏ كما قال في الأول ثم عاد إليه في اليوم الثالث ثم كذلك إلى اليوم الرابع كل يوم يعطيه كيساً فيه ألف دينار ثم بعد إعطاء الأربعة الأكياس مكنه من تقبيل رأسه وقال له‏:‏ انما منعتك ذلك قبل هذا لأنه لم يكن وصل إليك من معروفي ما يقتضي هذا والآن قد لحقك بعض النفع مني يا غلام أعطه الدار الفلانية يا غلام افرشه الفراش الفلاني يا غلام أعطه مائتي ألف درهم يقضي دينة بمائة ألف ويصلح شأنه بمائة ألف ثم قال الزمني فكن في داري فقلت‏:‏ اعز الله الوزير لو أذنت لي بالشخوص إلى المدينة لأقضي الناس أموالهم ثم أعود إلى حضرتك كان ذلك أرفق بي قال‏:‏ قد فعلت وأمر بتجهيزي فشخصت إلى المدينة وقضيت ديني ثم رجعت إليه فلم أزل في ناحيته‏.‏

ودخل عليه يوماً أبو قابوس الحميري فأنشده‏:‏

رأيت يحيى اتم الله نعمته ** عليه يأتي الذي لم يأته أحد

ينسى الذي كان من معروفه أبداً ** إلى الرجال ولا ينسى الذي بعدا

أجدك هل تدرين أن رب ليلة ** كأن دجاها من قرونك ينشر

صبرت لها حتى تجلت بغرة ** كغرة يحيى حين يذكر جعفر

فقضى حوائجه ووصله بجملة من المال‏.‏

قلت رفي جوده وجود عقبة ينشد هذان البيتان‏.‏

سألت الندى والجود حران أنتما ** فقالا كلانا عبد يحيى بن خالد

فقلت شرى ذلك الملك قال لا ** ولكن ورثنا والداً بعد والد

قلت هكذا قسم الكرم إلى الندى والجود والمعروف إنهما شيء واحد قال في الصحاح‏:‏ والندى الجود وكان يحيى يقول إذا أقبلت الدنيا فأنفق فإنها لا تفنى وإذا أدبرت فأنفق فإنها لا تبقى وفي هذا المعنى يقول الشاعر‏:‏ ولا الجود يفني المال والجد مقبل ولا البخل يبقي المال والعبد مدبر ونادى إسحاق بن إبراهيم الموصلي أحد غلمانه فلم يجبه فقال‏:‏ سمعت يحيى بن خالد يقول‏:‏ يدل على حلم الرجل سوء أدب كلمانه وكان يحيى يساير الرشيد يوماً فوقف له رجل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين عطبت دابتي فقال الرشيد‏:‏ يعطي خمس مائة درهم فغمزه يحيى فلما نزلوا قال له الرشيد‏:‏ يا أبة أومأت إلي بشيء فلم أعرفه فقال‏:‏ مثلك لا يجري هذا القدر على لسانه إنما يذكر مثلك خمسة آلاف عشرة آلاف فقال‏:‏ فإذا سأل مثل هذا كيف أقول قال‏:‏ تقول تشترى له دابة وأخبارهم كثيرة ومكارمهم شهيرة فلنقتصر على هذا المقدار رغبة في الاختصار‏.‏

ولم يزل يحيى في الحبس إلى أن مات كما تقدم ودفن في شاطىء الفرات فوجدت في جنبه رقعة فيها مكتوب بخطه‏:‏ قد تقدم الخصم والمدعى عليه في الأثر والقاضي هو الحكم العدل الذي لا يجوز فلا يحتاج إلى بينة وحملت الرقعة إلى الرشيد فلم يزل يبكي يومه كله وبقي أياماً يتبين الأسى في وجهه‏.‏

 سنة إحدى وتسعين ومائة

فيها توفي محمد بن الحسين الأزدي المهلبي البصري وكان من عقلاء زمانه وصلحائه ومعمر بن سليمان الرقي وكان من أجلاء المحدثين ومحمد بن سلمة الحراني الفقيه محدث حران ومغنيها وفيها توفي أبو أيوب مطرف بن مازن الكناني بالولاء وقيل القيسي بالولاء اليماني الصنعاني ولي القضاء بصنعاء اليمن‏.‏

وحدث عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وجماعة كثيرة وروى عنه الإمام الشافعي وخلق كثير وطعن في روايته خلق كثير من المحدثين وقال بعضهم‏:‏ كان رجلاً صالحاً‏.‏

 سنة اثنتين وتسعين ومائة

وفيها أول ظهور الخرمية ثاروا بجبال آذربيجان فغزاهم حازم بن خزيمة فقتل وسبى‏.‏

وفيها توفي الإمام الكبير أبو محمد عبدالله بن ادريس الأزدي الكوفي الحافظ العابد‏.‏

وفيها توفي مفتي الأندلس وخطيب قرطبة صعصعة بن سلام الدمشقي اخذ عن الأوزاعي والكبار‏.‏

وفيها توفي الأمير الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي مات في السجن وقيل في السنة التي تليها وقد ولي أعمالاً جليلة وكان أندى كفاً من أخيه جعفر وله أخبار في السخاء المفرط حتى أنه وصل مرة بعض أشراف العرب بخمسين ألف دينار وكان جعفر أبلغ في الرسائل والكتابة منه وكان هارون الرشيد قد ولاه الوزارة قبل جعفر فأراد أن ينقلها إلى جعفر فقال لأبيهما يحيى‏:‏ يا أبة وكان يدعوه كذلك اني أريد أن أجعل الخاتم الذي لأخي الفضل لجعفر وكان يدعو الفضل بأخي فإنهما متقاربان في المولد وكانت أم الفضل قد أرضعت الرشيد واسمها زبيدة من مولدات المدينة قال وقد احتشمت من الكتاب إليه في ذلك فاكتب أنت إليه فكتب والده إليه قد أمر أمير المؤمنين بتحويل الخاتم من يمينك إلى شمالك فكتب إليه الفضل‏:‏ سمعت مقالة أمير المؤمنين في أخي وأطعت وما انتقلت عني عن نعمة صارت إليه ولا غربت عنى وقال شمس رتبة طلعت عليه فقال جعفر لله أخي ما أنفس نفسه وأبين دلائل الفضل عليه وأقوى العقل منه وأوسع في البلاغة درعه وكان الرشيد قد ولاه خراسان فأقام بها مدة فوصل كتاب صاحب البريد بخراسان ويحيى جالس بين يديه ومضمون الكتاب أن الفضل بن يحيى متشاغل بالصيد وإدمان اللذات عن النظر في أمور الرعية فلما قرأه الرشيد رمى به إلى يحيى وقال له‏:‏ يا أبة اقرأ هذا الكتاب واكتب إليه ما يردعه عن هذا فكتب يحيى على ظاهر كتاب صاحب البريد‏:‏ حفظك الله يا بني وأمنع بك قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية ما أنكره فعاود ما هو أزين بك فإن من عاد إلى ما يزينه أو يشينه لم يعرفه أهل دهره إلا به والسلام‏.‏

وكتب في أسفله أبياتاً مضمونها التحريض على التستر في الليل بما لا ينبغي إظهاره والظهور بالنهار بما ينبغي اشتهاره كرهت ذكرها في هذا الكتاب فحذفتها لتضمنها التحريض على التستر بالذات وإيهام التنسك مع إخفاء تناول الشهوات المحرمات وكان الرشيد ينظر إلى ما يكتب فلما فرغ قال‏:‏ ابلغت يا أبة فلما ورد الكتاب على الفضل لم يفارق المسجد نهاراً إلى أن ينصرف عن عمله وقيل له ما أحسن كرمك لولايته فيك فقال‏:‏ تعلمت الكرم والتيه من عمارة بن حمزة فقيل له‏:‏ و كيف ذلك فقال‏:‏ كان أبي عاملاً على بعض بلاد فارس فانكسرت عليه جملة مستكثرة فحمل إلى بغداد وطولب بالمال فدفع جميع ما يملكه وبقيت عليه ثلاثة آلاف درهم لا يعرف لها وجهاً والطلب عليه حثيث فبقي حائراً في أمره وكانت بينه وبين عمارة بن حمزة منافرة ومواحشة لكنه علم أنه لا يقدر على مساعدته إلا هو فقال لي يوماً وأنا صبي امض إلى عمارة وسلم عليه عني وعرفه الضرورة التي صرنا إليها واطلب منه هذا المبلغ على سبيل القرضة إلى أن يسهل الله سبحانه وتعالى فقلت له أنت تعلم ما بينكما وكيف أمضي إلى عدوك بهذه الرسالة وأنا أعلم أنه لو قدر على إتلافك لأتلفك فقال‏:‏ لا بد أن تمضي إليه لعل الله يسخره ويوقع في قلبه الرحمة قال الفضل‏:‏ فلم يمكني معاودته وخرجت وأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى حتى أتيت داره واستأذنت عليه في الدخول فأذن لي فلما دخلت وجدته على صدر إيوانه متكئاً على مفارش وثيرة وقد غلف شعر رأسه ولحيته بالمسك ووجهه إلى الحائط وكان من شدة بهته لا يقعد إلا كذلك قال الفضل‏:‏ فوقفت أسفل الإيوان وسلمت عليه فلم يرد السلام فسلمت عليه عن أبي وقصصت عليه القصة فسكت ساعة ثم قال‏:‏ حتى ننظر فخرجت من عنده نادماً على نقل خطواتي إليه‏.‏

موقناً بالحرمان عاتباً على أبي كونه كلفني إذلال نفسه ونفسي بما لا فائدة فيه وعزمت على أن لا أعود إليه غيظاً منه فغبت عنه ساعة ثم جئته وقد سكن ما عندي فلما وصلت إلى الباب وجدت بغالاً محملة فقلت‏:‏ ما هذه فقيل إن عمارة قد سير المال فدخلت على أبي ولم أخبره بشيء مما جرى لي معه كي لا أكدر عليه إحسانه فمكثنا قليلاً وعاد أبي إلى الولاية وحصلت له أموال كثيرة فدفع لي ذلك المبلغ وقال تحمله إليه فجئت به ودخلت عليه فوجدته على الهيئة الأولى فأسلمت عليه فلم يرد وسلمت عليه عن أبي وشكرت إحسانه وعرفته بوصول المال فقال لي‏:‏ و يحك أقسطاراً كنت لأبيك يعني صيرفياً له اخرج عني لا بارك الله فيك‏.‏فخرجت ورددت المال إلى أبي وعجبنا من حاله فقال لي يا بني والله ما تسمح نفسي لك بذلك ولكن خذ ألف ألف درهم واترك لأبيك ألفي ألف درهم قال‏:‏ فتعلمت منه الكرم والتيه وعمارة المذكور من أولاد عكرمة مولى ابن عباس قال‏:‏ وكان كاتب أبي جعفر المنصور ومولاه وكان بهياً كريماً بليغاً فصيحاً وكان المنصور وولده المهدي يقدمانه ويحتملان أخلاقه لفضله وبلاغته ووجوب حقه وولي لهما الأعمال الكبار وله رسائل مجموعة‏.‏

ويحكى أن الفضل دخل عليه حاجبه يوماً فقال‏:‏ ان بالباب رجلاً زعم أن له سبباً يمن به إليك فقال‏:‏ ادخله فأدخله فإذا هو شاب حسن الوجه رث الهيئة فسفم فأومى إليه بالجلوس فجلس فقال له بعد ساعة‏:‏ ما حاجتك قال‏:‏ اعلمتك بها رثاثة ملبسي قال‏:‏ نعم فما الذي يمن به قال ولادة بقرب من ولادتك وجوار يدنو من جوارك واسم مشتق من اسمك قال الفضل‏:‏ اما الجوار فقد يمكن وقد يوافق الاسم الاسم ولكن من أعلمك بالولادة قال‏:‏ اخبرتني أمي أنها لما ولدتني قيل لها‏:‏ و لد هذه الليلة ليحيى بن خالد غلام وسمي الفضل فسمتني أمي فضيلاً إكباراً لاسمك أن يلحقني به وصغرته لقصور قدري عن قدرك فتبسم الفضل وقال‏:‏ كم أتى عليك من السنين قال‏:‏ خمس وثلاثون سنة قال‏:‏ صدقت هذا المقدار الذي أعد قال‏:‏ فما فعلت أمك قال‏:‏ ماتت قال فما منعك من اللحاق بنا متقدماً قال‏:‏ لم أرض نفسي للقائك لأنها كانت في عامية معها حداثة تقعدني عن لقاء الملوك وعلق هذا بقلبي منذ أعوام فشغلت نفسي بما يصلح للقائك حتى رضيت نفسي قال‏:‏ فما يصلح له قال‏:‏ الكبير من الأمر والصغير قال يا غلام‏:‏ اعطه لكل عام مضى من سنيه ألف درهم وأعطه عشرة آلاف درهم يحمل بها نفسه إلى وقت استعماله وأعطه مركوباً سرياً‏.‏

قلت ومن المستغربات أيضاً ما حكي عن الفضل بن يحيى محمد بن يزيد الدمشقي الشاعر قال‏:‏ ما شعرت في بعض الليالي إلا وإذا بقارع يقرع الباب قال‏:‏ فخرجت إليه وقلت‏:‏ من قال‏:‏ اجب الأمير قلت ومن الأمير قال‏:‏ الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك قال‏:‏ فقلت‏:‏ لعلك غلطت في الرسالة قال‏:‏ الست محمد بن يزيد الدمشقي قلت‏:‏ بلى قال‏:‏ فإليك أرسلت قال‏:‏ فأخذت أطماراً كانت لي وخرجت أقفو أثره حتى وصل بي إلى دار فأجلسني على بابها وقال‏:‏ اجلس يا محمد حتى أخرج إليك‏.‏

قال‏:‏ فما لبثت إلا يسيراً حتى خرج وقال‏:‏ ادخل يا محمد فدخلت وطلعت فإذا أنا بمكان واسع وفوقه مرتبة وجمع كثير فيهم يحيى بن خالد والفضل وجعفر وسائر أهل الدولة‏.‏

قال‏:‏ فأخرج مولود من باب عن يمين الفضل وكانت ليلة سابعة ولا علم لي به فأقبلوا يقرؤون ومجامر الندى تختلف بينهم والشماع المعنبرة تضيء بأيدي الخدم فلما فرغوا من ختمتهم قام الشعراء كل يهنيه بطلعته ويبشره برؤيته فنثرت عليهم الدنانير مطيبة بالمسك فما بقي أحد إلا أخذ في كمه وأخذت معهم وخرج الناس والشعراء وخرجت معهم فلحقني خادمان وقالا‏:‏ ارجع يا محمد فرجعت فلقيت الفضل وهو جالس مع ابنه أو قال مع أبيه بالمثناة من تحت بعد الموحدة فقال‏:‏ يا محمد قد سمعت ما كان من هذه الليلة والله ما أعجبني من أشعارهم لا قليل ولا كثير وقد أحببت أن تسمعني في المولود شيئاً قال فقلت‏:‏ يا سيدي هيبتك تمنعني من قول الشعر وغيره قال‏:‏ لا بد لك ولو بيتاً واحداً فقليلك كثير فأطرقت ساعة ثم قلت‏:‏ يا سيدي حضرني بيتان قال‏:‏ هاتهما فأنشأت أقول‏:‏

ويفرح بالمولود من آل برمك ** ولا سيما إن كان من ولد الفضل

ويعرف فيه الخير عند ولادة ببذل الندى والجود والمجد والفضل قال‏:‏ فتهلل وجهه فرحاً وقال‏:‏ ما سررت قط بمثل هذا وأمر لي بعشرة آلاف دينار وقال‏:‏ خذها يا محمد فهو أول حقك فأخذت المال وخرجت وأنا من أشد الناس فرحاً واشتريت به أرضاً وعقاراً وفتح الله علي وكثر مالي وعظم جاهي فما أقمت إلا يسيراً حتى دارت على البرامكة الدائرة وكان عندي حمام بإزاء داري فأمرت قيم الحمام أن ينظفه ولا يدخله أحد ثم دخلت فيه وقضيت ما أحتاج إليه وأرسلت إلي قيم الحمام أطلب منه أن يرسل إلي بمن يدلكني ويغمزني فأرسل إلي بصبي حسن الوجه فدلكني وغمزني فلما استلقيت على قفاي ذكرت أيام البرامكة ان جميع ما أملكه من فضل الله تعالى هو على يد الفضل وذكرت البيتين فقلت‏:‏ ويفرح بالمولود من آل برمك ولا سيما إن كان من ولد الفضل ويعرف فيه الخير عند ولادة ببذل الندى والجود والمجد والفضل قال فرأيت الصبي الذي كان يدلكني قد انقلبت عيناه وانتفخت أوداجه وسقط مغشياً عليه فظننت أنه مجنون فأخذت ثيابي ومضيت إلى منزلي وأمرت إلى قيم الحمام فلما حضر قلت‏:‏ ارسلت إلي المجنون يدلكني ويغمزني الحمد لله على السلامة منه قال والله يا سيدي ما به جنون وإان له عندي سنا كثيرة ما رأيت منه شيئاً فقلت‏:‏ علي به الساعة فلما حضر أنسته من نفسي حتى اطمأنت نفسه وقلت‏:‏ و ما ذلك العارض الذي رأيته منك قال لي ما رأيت مني قلت رأيت منك ما استحيي من ذكره فقال‏:‏ رأيت أني جننت قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال فما كنت تنشد في ذلك الوقت قلت‏:‏ بيتين من الشعر قال‏:‏ و من قائلهما قلت‏:‏ أنا قال‏:‏ ففي من قلتهما قلت‏:‏ في ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك قال ومن ولد الفضل بن يحيى بن خالد قلت‏:‏ لا أدري قال‏:‏ انا ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك وأنا صاحب ذلك السابع وفي قلت البيتين كنت قد سمعتهما من قبل فلما سمعتهما منك ضاقت علي الأرض بأجمعها ورأيت مني ما رأيت قال فقلت له‏:‏ يا ولدي أنا والله شيخ كبير ولا لي قرابة يرثني وأرثها وقد عزمت أن أحضر شاهدين وأشهدهما أن جميع ما أملكه من فضل الفضل أبيك وعلى يديك فتأخذ المال وكون أعيش في فضلك إلى أن أموت فتغرغرت عيناه بالدموع وقال‏:‏ و الله لا انثنيت عليك في هبة وهبها لك والدي وإن كنت محتاجاً إلى ذلك‏.‏

قال‏:‏ فحلفت عليه أن يأخذ الكل أو البعض فكره وكان آخر عهدي به‏.‏

ومما حكي في كتاب طرف الألباب وتحف الأحباب من حكايات بعض الشعراء والأعراب أنه خرج الفضل بن يحيى البرمكي يوماً إلى الصيد ومعه الأصمعي ومحمد بن يزيد العقيلي والحسن بن هاني فلما قضى وطره من صيده ورجع يريد مضربه اعترضه أعرابي على راحلة له فلما رأى الأعرابي المضارب تضرب والخيام تنصب والعسكر الكثير والجم الغفير نزل عن راحلته وتقدم حتى مشى بين يديه وقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فقال‏:‏ و يلك احفظ عليك ما تقول يا أخا العرب فقال‏:‏ السلام عليك أيها الوزير قال‏:‏ و يحك دون هذا فقال‏:‏ السلام عليك أيها الأمير قال‏:‏ وعليك السلام ورحمة الله وبركاته الآن قاربت فاجلس فجلس بين يديه فلما مثل بين يديه قال‏:‏ يا أخا العرب من أين أقبلت قال‏:‏ من أرض قضاعة قال‏:‏ من أدناها أو من أقصاها قال‏:‏ بل من أقصاها قال الأصمعي‏:‏ فالتفت إلي الفضل وقال يا أصمعي كم بين أقصى أرض قضاعة إلى العراق قال قلت‏:‏ ثمان مائة فرسخ قال يا أخا العرب مثلك من يقصد من ثمان مائة فرسخ إلى العراق فلأي شيء قصدت قال‏:‏ قصدت هؤلاء الأنجاد الذين صار معروفهم شائعاً في البلاد قال‏:‏ من هم قال‏:‏ البرامكة‏.‏

فقال‏:‏ يا أخا العرب إن البرامكة خلق كثير وكلهم جليل خطير ولكل منهم خاصة وعامة فهل اخترت من قصدته لنفسك وابتديته لحاجتك قال‏:‏ اجل‏.‏قال‏:‏ من هو قال‏:‏ اطر لهم باعاً واسمحهم كفاراً أظهرهم أو قال وأشهرهم كرماً‏.‏

قال‏:‏ من هو قال‏:‏ الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك‏.‏

قال‏:‏ يا أخا العرب ان الفضل جليل المقدار عظيم الخطر إذا جلس للناس مجلساً عاماً لم يحضر مجلسه إلا العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والكتاب والمذاكرون افعالم أنت قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأديب أنت قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ افعالم أنت بأخبار العرب وبأشعارها ونوادرها قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فوردت على الفضل بكتاب وسيلة قال‏:‏ لا‏.‏

قال يا أخا العرب لقد غرتك نفسك مثلك من يقصد الفضل وهو على ما عرفتك من جلاله بلا ذريعة ولا وسيلة قال‏:‏ و الله يا أمير ما قصدته إلا لحسبه المعروف ولكرمه المألوف وببيتين من الشعر قلتهما‏.‏

قال‏:‏ يا أخا العرب اسمعني البيتين فإن كانا مما يصلح أن تلقى بهما الفضل أشرت عليك بلقائه وإن كانا مما لا يصلح أن تلقى بهما الفضل بررتك بشيء من مالي ورجعت إلي ناديتك ولم يخف نفسك ولم يستخف شعرك قال وتفعل ذلك لي أيها الأمير قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فإني والله الذي يقول‏:‏ ألم تر أن الجود من لدن آدم نجود حتى صار يملكه الفضل فلو أم طفل مسها جوع طفلها وغذته باسم الفضل لاستعصم الطفل قال أحسنت والله‏:‏ يا أخا العرب قال‏:‏ فإن قال لك الفضل هذان البيتان قد مدحنا بهما شاعر غيرك وأخذ الجائزة عليهما‏:‏ فأنشد غيرهما ما كنت قائلاً قال‏:‏ اذن والله أقول يا أيها الأمير‏:‏ قد كان آدم حين حان وفاته أوصاك وهو يجود بالحواء ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم فكفيت آدم غيلة الأبناء قال أحسنت والله يا أخا العرب فإن قال لك الفضل وهذان البيتان أيضاً مسروقان ما كنت قائلاً قال‏:‏ اذن والله أقول أيها الأمير‏.‏ملت جهابذ فضل دون نائله ومل كاتبه إحصاء ما يهب لولاك فضل لم يمدح بمكرمة خلق ولم يرتفع مجد ولا حسب قال‏:‏ احسنت والله يا أخا العرب فإن قال لك الفضل‏:‏ و هذان البيتان أيضاً أخذتهما من أفواه الناس انشدني غيرهما وقد رمقتك الأدباء بأبصارهم وامتدت إليك الأعناق فتحتاج أن تناضل وللفضل صولات على صلب ماله يرى المال فيه بالمذلة مذعنا ولو أن رب المال أبصر جوده لصلى على مال الأمير وأذنا قال‏:‏ احسنت والله يا أخا العرب فإن قال لك الفضل‏:‏ و هذان البيتان أيضاً مسموعان انشدني غيرهما ماذا كنت قائلاً قال‏:‏ اذن والله أقول أيها الأمير‏:‏ ولو قيل للمعروف ناد أخا الندى لنادى بأعلى الصوت يا فضل يا فضل ولو أن ما أنفقت من رمل عالج لأصبح من جدواك قد نفد الرمل قال‏:‏ احسنت والله يا أخا العرب فإن قال لك الفضل‏:‏ و هذان البيتان أيضاً مقولان انشدني غيرهما ما كنت قائلاً قال‏:‏ اذن والله أقول أيها الأمير‏:‏ وما الناس إلا اثنان صب وباذل وإني لذاك الصب والباذل الفضل على أن لي مثلاً إذا ذكر الهوى وليس لفضل في سماحته مثل قال‏:‏ احسنت والله يا أخا العرب فإن قال لك الفضل‏:‏ و هذان البيتان أيضاً مذكوران أنشدني غيرهما ما كنت قائلاً قال‏:‏ اذن والله أقول أيها الأمير‏:‏ حكى الفضل عن يحيى سماحة خالد فقاربه التقوى وقاربه البذل وقام به المعروف شرقاً ومغرباً ولم يك للمعروف بعد ولا قبل قال‏:‏ احسنت والله يا أخا العرب فإن قال لك الفضل ضجرنا من الفضل والفضل أنشدني بيتين على الكنية لا على الاسم ما كنت قائلاً قال‏:‏ اذن والله أقول أيها الأمير‏.‏

ألا يا أبا العباس يا أوجه الورى ويا ملكاً جد الملوك له نمل إليك يسير الناس شرقاً ومغرباً فرادى وأزواجاً كأنهم غل قال‏:‏ احسنت والله يا أخا العرب فمان قال لك الفضل أنشدني بيتين بغير الكنية وبغير الاسم وعلى غير القافية ما كنت قائلاً قال‏:‏ اذن والله أقول يا أيها الأمير‏:‏ يا جبل الله المنيف الذي تسعى إليه في الملمات الورى تؤم أبوابك طلاب الغنى كما يؤم البيت حجاج منى قال‏:‏ احسنت والله يا أخا العرب فإن قال لك الفضل‏:‏ و هذان البيتان أيضاً مسروقان انشدني غيرهما ما كنت قائلاً قال‏:‏ و الله لئن زاد امتحاني الفضل لأقولن أربعة أبيات ما سبقني إليها عربي ولا أعجمي ولئن زاد امتحاني لأدخلن قوائم ناقتي هذه في كذا من أم الفضل ولأرجعن إلى قضاعة خائباً خاسراً ولا أبالي قال‏:‏ فنكس الفضل رأسه ملياً ثم رفعه وقال‏:‏ يا أخا العرب أسمعني الأبيات فقال‏:‏ ولائمة لامتك يا فضل في الندى فقلت لها هل يقدح اللوم في البحر كأن نوال الناس من كل وجهة تحدر صوب المزن في مهمة قفر كأن وقود الناس من كل بلدة إلى الفضل لاقوا عنده ليلة القدر قال فخز الفضل على وجهه ضاحكاً ثم رفع رأسه وقال‏:‏ يا أخا العرب انا والله الفضل فقل ما شئت قال‏:‏ عزمت عليك يا أيها الأمير أنت الفضل قال‏:‏ انا الفضل قال‏:‏ فأقلني على ما مضى من الكلام مني إليك قال‏:‏ اقالك الله اذكر حاجتك قال‏:‏ عشرة آلاف دينار‏.‏

قال‏:‏ يا أخا العرب أزريت بنا وبنفسك لك عشرة ومثلها‏.‏

قال‏:‏ فحسده بعض الجلساء وقال له‏:‏ يا أمير تعطي شاعراً عشرين ألف دينار كان يقنع بالقليل عن الكثير بالله يا أمير ألا ما ربيت عليه فإن دفع عن نفسه بيت من الشعر وإلا أخذت النصف وكان في النصف الكفاية قال‏:‏ فسمع كلامه وأوتر القوس وركب السهم وقال يا أخا العرب ادفع عن نفسك ببيت من الشعر وإلا أخرجت هذا السهم من عينيك فأنشأ الأعرابي يقول‏:‏ فقوسك قوس المجد والوتر الندي وسهمك سهم الجود فاقتل به فقري فقال‏:‏ زيدوه عشرين على العشرين‏.‏

رجعنا إلى ذكر ما نزل بالبرامكة من البلاء واستحالة تلك السراء إلى الضراء وتلك النعم إلى النقم وبهجة السرور إلى بؤس الشرور قال أهل التاريخ‏:‏ ثم إن الرشيد لما قتل جعفراً على ما تقدم في ترجمته قبض على أبيه بيحيى وأخيه الفضل المذكور وكانا بالرقة فسجنهما بها واستصغى أموال البرامكة ويقال‏:‏ ان الرشيد سير مسرور الخادم إلى السجن فجاءه وقال للموكل بهما‏:‏ اخرج إلي الفضل فأخرجه إليه فقال له‏:‏ ان أمير المؤمنين يقول لك إني قد أمرتك أن تصدقني عن أموالكم فزعمت أنك قد فعلت وقد صح عندي أنك أبقيت لك مالاً كثيراً وقد أمرني إن لم تطلعني على المال أن أضربك مائتي سوط وأرى لك أن لا تؤثر مالك على نفسك فرفع الفضل رأسه إليه وقال‏:‏ و الله ما كذبت فيما أخبرت به ولو خيرت بين الخروج من ملك الدنيا وبين أن أضرب سوطاً واحداً لاخترت الخروج وأمير المؤمنين يعلم ذلك وأنت تعلم أنا نصون أعراضنا بأموالنا فكيف صرنا نصون أموالنا بأنفسنا فان كنت قد أمرت بشيء فامض له فأخرج مسرور سوطاً كان معه في منديل فضربه مائتي سوط وتولى ضربه بنفسه فضربه أشد الضرب وهم لا يحسبون الضرب وكاد أن يتلفه وكان هناك رجل بصيراً بالعلاج فطلبوه لمعالجته فلما رآه قال‏:‏ يكون قد ضربوه خمسين سوطاً فقيل له‏:‏ بل مائتي سوط فقال‏:‏ ما هذا إلا أثر خمسين لا غير ولكن يحتاج أن ينام على ظهره على بارية وعدوس على صدره ثم أخذ بيده فجذبه على البارية فتعلق بها من لحم ظهره شيء كثير ثم أقبل يعالجه إلى أن نظر يوماً إلى ظهره فخر المعالج ساجداً فقيل له‏:‏ ما بالك قال‏:‏ قد برىء وقد نبت في ظهره لحم حي ثم قال‏:‏ الست قلت هذا قد ضرب خمسين سوطاً فقال‏:‏ اما والله لو ضرب ألف سوط ما كان أثرها بأشد من هذا وإنما قلت هذا حتى يقوى بنفسه فيعنني على علاجه ثم إن الفضل اقترض من بعض أصحابه عشرة آلاف درهم وسيرها إليه فردها عليه فاعتقد أنه استقلها فاقترض عليها عشرة آلاف أخرى وسيرها إليه فأبى أن يقبلها وقال‏:‏ ما كنت لآخذ على معالجة فتى من الكرام كراء والله لو كانت عشرين ألف ديناراً ما قبلتها فلما بلغ الفضل ذلك قال‏:‏ و الله إن الذي فعله هذا بلغ من الذي فعلناه في جميع أيامنا من المكارم وكان قد بلغه أن ذلك المعالج في شدة وفاقة وكان الفضل ينشد وهو في السجن هذه الأبيات قيل كأنها لأبي العتاهية‏:‏ إلى الله في ما نالنا نرفع الشكوى ففي يده كشف المضرة والبلوى خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلا نحن في الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا‏:‏ السجان يوماً لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا وكان الفضل كثير البر بأبيه وكان أبوه يتأذى من استعمال الماء البارد في زمن الشتاء فيحكى أنه لما كان في السجن لم يقدر على تسخين الماء وكان يأخذ إبريق النحاس وفيه الماء فيلصقه إلى بطنه زماناً عساه ينكر برودته بحرارة بطنه أو قال باطنه حتى يستعمله أبوه وأخباره كثيرة وغرائبه غزيرة‏.‏وكانت ولادته لسبع بقين من ذي الحجة سنة تسع وأربعين ومائة وتوفي في السجن في السنة المذكورة وقيل بل في سنة ثلاث وتسعين ومائة في المحرم ولما بلغ الرشيد موته قال‏:‏ امري قريب من أمره وكذا كان فإنه توفي في سنة ثلاث وتسعين ومائة‏.‏

وفي السنة المذكورة وقيل قبلها وقيل بعدها توفي العباس بن الأحنف اليمامي الشاعر المشهور ومن شعره‏:‏ إذا أنت لم يعطفك إلا شفاعة فلا خير في ود يكون بشافع فأقسم ما تزكي عتابك عن قلبي ولكن لعلمي أنه غير نافع وإني إذا لم ألزم الصبر طائعاً فلا بد منه مكرهاً غير طائع حكى عمر بن شبة قال‏:‏ ثم مات إبراهيم الموصلي المعروف بالنديم ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي والعباس بن الأحنف فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلي عليهم فخرج فصفوا بين يديه فقال‏:‏ من هذا قالوا‏:‏ ابراهيم الموصلي فقال‏:‏ اخروه وقدموا العباس بن الأحنف فقدم فصلى عليه فلما فرغ وانصرف نا منه هاشم بن عبدالله الخزاعي فقال‏:‏ يا سيدي كيف آثرت العباس بن الأحنف بالتقدمة على من حضر فأنشد بيتين من نظم العباس ثم قال أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقدمة‏.‏

قلت وهذا فيه اعتراض من وجهين‏:‏ احدهما أن الكسائي كان أولى بالتقديم لفضائله المشهورة ولو لم يكن إلا كونه إماماً في قراءة الكتاب العزيز العربي ولسان اللغة العربية والثاني أن في موته خلافاً اين كان من البلاد وقد قيل إنه مات بالري وفي ذلك أيضاً إشكال فإن بعضهم حكى أنه رأى العباس بعد موت هارون الرشيد وبعضهم حكى أنه توفي قبل هذه السنة وقد قدمنا ذكر ذلك فالله أعلم أي ذلك كان‏.‏

سنة ثلاث وتسعين ومائة فيها سار الرشيد إلى خراسان ليمهد قواعدها وكان في العام الماضي قد بعث من قبض الأمير علي بن عيسى بن ماهان واستصفى أمواله وخزائنه فبعث بها إلى الرشيد على ألف وخمس مائة جمل فوافقته بجرجان‏.‏

وفيها توفي الإمام العالم أبو بشر إسماعيل ابن علية البصري الأسدي مولاهم قال شعبة ابن علية‏:‏ سيد المحدثين وقال يزيد بن هارون‏:‏ دخلت البصرة وما بها أحد يفضل في الحديث على ابن علية‏.‏

وتوفي بعده بأيام الحافظ محمد بن محمد بن جعفر المعروف بغندر قال ابن معين‏:‏ كان من أصح الناس كتاباً وقال غيره‏:‏ مكث خمسين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً‏.‏

وفيها توفي السيد الجليل الإمام أبو بكر بن عياش الأسدي مولاهم شيخ الكوفة في القراءة والحديث قال بعضهم‏:‏ كان لا يفتر من التلاوة قرأ اثني عشر ألف ختمة وقيل أربعة وعشرين ألف ختمة وعمره بضع وتسعون سنة قال رحمه الله رأيت أعرابياً واقعاً بالكناسة على نجيب له ينشد‏:‏ لعل انحدار الدمع يعقب راحة من الوجد أو يشفى عليل البلابل فخلوت بنفسي فبكيت فاسترحت من مصيبة أصابتني هذا ما رواه المبرد عنه‏.‏

وفيها توفي الخليفة أبو جعفر هارون الرشيد بن المهدي محمد بن المنصور بطوس وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة‏.‏

ومولده بالري سنة ثمان وأربعين ومائة روى عن أبيه وجده ومبارك بن فضالة وحج مرات في خلافته وغزا عدة غزوات حتى قيل فيه‏:‏ فمن يطلب لقاءك أو يرده فبالحرمين أو أقصى الثغور وكان شهماً شجاعاً حازماً جواداً ممدوحاً فيه دين وسنة وتخشع وقيل‏:‏ كان يصلي في اليوم مائة ركعة ويتصدق كل يوم من صلب ماله بألف درهم وكان يخضع للكبار ويتأدب معهم ووعظه الفضيل وابن سماك وبهلول وغيرهم وله مشاركة قوية في الفقه وبعض العلوم والأدب وفيه انهماك على الذات ولقيان الجواري الفائقات الجمال وسماع أشعار مغازلاتهن بلسان الحال مما نظمه الشعراء من الأبيات النفائس وسيأتي ذكر شيء من ذلك في ترجمة أبي نواس وكذلك سيأتي في ترجمة الأصمعي ذكر أشياء كثيرة جرت له معه ومع غيره فيها غرائب وعجائب‏.‏

فيها مبدأ الفتنة بين الأمين والمأمون وكان الرشيد أبوهما قد عقد العهد للأمين ثم من بعده للمأمون وكان المأمون على أمرة خراسان فشرع الأمين في العمل على خلعه ليقوم ولده وهو ابن خمس سنين وأخذ يبذل الأموال للقواد ليقوموا معه في ذلك ونصحه أولو الرأي فلم يرعو حتى آل الأمر إلى قتله‏.‏

وفيها توفي يحيى بن سعيد بن أبان الأموي الكوفي الحافظ والشيخ العارف بالله السيد الجليل شقيق البلخي شيخ خراسان وشيخ حاتم الأصم‏.‏

وفيها على خلاف ما تقدم توفي إمام أئمة العربية حامل راية النحو الراقي فيه المرتبة العلية‏:‏ ابو بشر عمر بن عثمان الملقب بسيبويه الحارثي مولاهم قيل‏:‏ كان في علم النحو أعلم المتقدمين والمتأخرين لم يوضع فيه مثل كتابه وذكره الجاحظ يوماً فقال‏:‏ لم يكتب الناس في النحو كتاباً مثله وجميع كتب الناس عليه عيال‏.‏

وقال الجاحظ‏:‏ اردت الخروج إلى محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم ففكرت في أي شيء أهديه له فلم أجد شيئاً أشرف من كتاب سيبويه فلما وصلت إليه قلت له‏:‏ لم أجد شيئاً أهديه لك مثل هذا الكتاب وقد اشتريته من ميراث الفراء فقال‏:‏ والله ما أهديت إلي أحب إلي منه‏.‏

وفي بعض التواريخ أن الجاحظ لما وصل إلى ابن الزيات بكتاب سيبويه أعلمه به قبل إحضاره إليه فقال له ابن الزيات‏:‏ او ظننت أن خزائننا خالية من هذا الكتاب فقال الجاحظ‏:‏ ما ظننت ذلك ولكنها بخط الفراء ومقابلة الكسائي وتهذيب عمرو بن بحر الجاحظ يعني نفسه فقال ابن الزيات‏:‏ هذه أجل نسخة توجد وأعزها فأحضرها إليه فسر بها وقعت منه أجل موقع‏.‏

أخذ سيبويه النحو من الخليل بن أحمد وعن عيسى بن عمرو ويونس بن حبيب وغيرهم وأخذ اللغة عن أبي الخطاب المعروف بالأخفش الأكبر وغيره‏.‏

وقال ابن النطاح‏:‏ كنت عند الخليل بن أحمد فأقبل سيبويه فقال الخليل مرحباً بزائر لا يمل‏.‏

قال أبو عمرو المخزومي وكان كثير المجالسة للخليل‏:‏ ما سمعت الخليل يقولها لأحد إلا سيبويه وكان قد ورد إلى بغداد من البصرة والكسائي يومئذ يعلم الأمين بن هارون الرشيد فجمع بينهما وتناظرا وجرى مجلس يطول شرحه وزعم الكسائي أن العرب تقول كنت أظن أن الزنبور أشد لسعة من النحلة فإذا هو إياها فقال سيبويه‏:‏ ليس المثل كذا بل فإذا هو هي وتشاجرا طويلاً واتفقا على مراجعة عربي خالص لا يشوب كلامه شيء من كلام الحضر وكان الأمين شديد العناية بالكسائي لكونه معلمه فاستدعى عربياً وسأله فقال كما قال سيبويه فقال له يزيد أن يقول كما قالى الكسائي فقال‏:‏ ان لساني لا تطاوعني على ذلك فانه ما يسبق إلا على الصواب فقرروا معه‏:‏ ان شخصاً يقول قال سيبويه كذا وقال الكسائي كذا فالصواب مع من منهما فيقول العربي مع الكسائي فقال هذا يمكن ثم عقد لهما المجلس واجتمع أئمة هذا الشأن وحضر العربي فقيل له ذلك فقال‏:‏ الصواب مع الكسائي وهو كلام العرب فعلم سيبويه أنهم تحاملوا عليه وتعصبوا للكسائي فخرج من بغداد وقد حمل في نفسه لما جرى عليه وقصد بلاد فارس فتوفي بقرية من قرى شيراز يقال لها البيضاء وقيل بل توفي بالبصرة وقيل بل بمدينة ساوة‏.‏وفي السنة التي توفي فيها وفي مقدار عمره خلاف كثير والذي ذكره الحافظ أبو الفرج بن الجوزي أنه توفي في السنة المذكورة وعمره اثنتان وثلاثون سنة قيل وكان قلمه أبلغ من لسانه وهو أثبت من حمل عن الخليل وقال أبو زيد الأنصاري‏:‏ كان سيبويه غلاما يأتي مجلسي وله ذوابتان وإذا سمعته يقول حدثني من أثق به فإنما يعينني وقال إبراهيم الحربي‏:‏ سمي سيبويه لان وجنتيه كانتا كأنهما تفاحتان وكان في غاية الجمال وقال غيره‏:‏ هو لقب فارسي معناه بالعربي رائحة التفاح‏.‏